اللغة كخاصية إنسانية
إذا كانت اللغة هي كل نسق من العلامات يمكن أن يتخد وسيلة للتواصل، وإذا كانت حيوانات كثيرة تبرهن عن امتلاكها لمثل هذا النسق خصوصا تلك التي تعرف حياتها الإجتماعية أشكالا معقدة من التنظيم لايتصور دون أداة للتواصل كالنمل والنحل، فلم تعتبر اللغة خاصية إنسانية إذن ؟ خصوصا وأن الرأي الشائع لدى الحس المشترك يؤكد أن الحيوانات تتكلم ولو أننا لانفهم لغتها
()
تناول ديكارت هذا السؤال في كتابه مقال في المنهج. وباعتباره أحد دعاة النزعة الآلية التي تسعى إلى تفسير الحركة تفسيرا ميكانيكيا وتنظر إلى الحيوان كمجرد آلة معقدة التركيب خاضعة لقوانين الحركة، فإن مايدعى لغة حيوانية لايعدو أن يكون حركات طبييعة لاتمثل في نهاية المطاف سوى ردود أفعال غريزية أو قابلة للبرمجة عن طريق الترويض ومن ثم قابلة للتوقع أو أنها استجابات آلية لمثيرات ودوافع. بدليل أن أكمل الحيوانات خلقة وأكثرها ذكاءا وأقدرها على إصدار أصوات كالببغاء لاتنطق نطقا يشهد أنها تعي ماتقول، ويظل "أداؤها اللغوي" دون مستوى أداء أغبى الأطفال أو مستوى الصم والبكم الذين حرموا أعضاء النطق لكنهم قادرون مع ذلك على ابتكار علامات يجعلون بها أفكارهم مفهومة. إن اللغة إذن وظيفة التعبير عن الفكر ودلالة على الوعي الذين ينفرد بهما الإنسان من منطلق كونه مركبا من جوهرين: الجسد وخاصيته الإمتداد ثم النفس وخاصيتها التفكير. أما الحيوان فلا يملك غير الحركات الطبيعية أو الإنفعالات(نص: "الكلام خاصية للإنسان"، ص13.)
لكننا نعلم أن كارل فون فريش قد اكتشف في أواخر القرن التاسع عشر قواعد مايعرف بلغة الرقص لدى النحل والتي تستطيع من خلالها نحلة اكتشفت مثلا مكانا للرحيق أن تعود للخلية وتخبر الباقيات بمعلومات محددة عن كمية الرحيق واتجاه موقعه ومقدار بعده عن الخلية !. إنه أذن نظام تواصلي معقد ومدهش يضع موضع شك وتساؤل أطروحة اختصاص الإنسان باللغة. فلِم الإصرار على جعل اللغة خاصية إنسانية؟ ألا يخفي هذا الإصرار نزعة إنسانية متمركزة؟
لنلاحظ مع إميل بنفنيست كيف أن لغة النحل هذه لاتعبر فعلا ولايمكنها أن تعبر سوى عن عدد محدود من المضامين بسبب محدودية عدد التأليفات والتنويعات الممكنة التي تقبلها لغة الرقصات، كما أنها لاتسمح بقيام حوار إذ تظل الرسالة في اتجاه وحيد دون استجابة لغوية من المتلقي، ودون إمكانية نقلها إلى طرف ثالث، كما تشترط الحضور الفعلي للموضوع الخارجي المشار إليه. و كلها قيود تنفلت من أسرها اللغة الإنسانية ، وبالمقابل فإنها تعتمد الجهاز الصوتي ومخارجه من الوفرة بحيث يسمح بتأليفات يمكنها من التعبير عما لانهاية له من المضامين.ولعل الخاصية الأخيرة هي التي تميز نهائيا ودون لبس اللغة الإنسانية عن غيرها من أنظمة التواصل لدى الحيوان. فكيف يمكن لأصوات (حروف الأبجدية مثلا) وكلمات (مفردات القاموس) متناهية العدد أن تعبر عما لانهاية له من المضامين؟
يعود ذلك إلى خاصية التمفصل المزدوج التي أوضحها أندري مارتيني كالتالي:
• - التمفصل الأول: ما من جملة أو منطوق دال إلا ويقبل التمفصل والتجزئ إلى عدد من الوحدات الصغرى المتمايزة الدالة أو المونيمات والتي يمكن إعادة استعمالها في جمل أخرى لتأدية مضامين جديدة.
• - التمفصل الثاني: ويتجلى في كون المونيمات بدورها تقبل التمفصل إلى وحدات صغرى غير دالة هي الأحرف أو إذا شئنا الدقة الأصوات أو الفونيمات التي يمكن إعادة عزلها وإعادة استعمالها لتأليف كلمات وتأدية مضامين جديدة(نص " التمفصل المزدوج للغة" ص23). ويمثل هذا التمفصل المزدوج اقتصادا كبيرا للغة الإنسانية وهو تمفصل تفتقده لغة الرقص لدى النحل أو حتى لغة الصيحات فيما لو اعتمدها الإنسان. وقد ارجع برغسون هذا التميز إلى طبيعة تقسيم العمل في المجتمع الإنساني: فمن حيث أن الفرد لايولد كالنحلة مهيأ للقيام بعمل واحد محدد وحيث أن قائمة الأنشطة الممكن مزاولتها غير حدود فإن اللغة الإنسانية قد عكست هذا الإنفتاح والمرونة.(ثص: " الكلمات والأشياء" ص 19)
ليست اللغة خاصية إنسانية فحسب بل هي علامة مميزة للوجود الإنساني. وقد ذهب بعض الفلاسفة أمثال إرنست كاسيرر إلى حد القول بأن اللغة والإبداعات الرمزية عامة قد خلقت عالما رمزيا متوسطا بين الإنسان والعالم المادي بحيث أصبح إدراك هذا الأخير كما هو مستحيلا بغير التحويلات التي يخضعه لها العالم الرمزي. ومن هنا وصف الإنسان بكونه" حيوانا رامزا".(نص "الإنسان حيوان رامز" ص 14) وقد انتبه "مين دوبيران" في القرن 17إلى هذه الوظيفة الترميزية لدى صغير الإنسان أي الرضيع فقال: " حيث لايكون هناك قصد أو إرادة فليست هناك علامات بمعنى الكلمة، فالطفل لايبدأ حقا في استعمال العلامات إلا عندما يحول صيحاته وبكائه إلى علامات ينادي بها من حوله" وهو ماعبر عنه بنفنيست بقوله إن الإنسان بخلاف الحيوان يسمي إحساساته ولايكتفي بالتعبير عنها.. أما اللساني المعاصر نعوم تشومسكي فقد ذهب إلى أن الإنجازاللغوي الباهر الذي يظهر لدى الطفل يدفع إلى افتراض كفاية لغوية فطرية على شكل بنيات وقواعد يتم إخراجها من القوة إلى الفعل عبر مسلسل التعلم.
نقد وتقويم للأطروحات القائلة بأن اللغة خاصية إنسانية: هل نحن أمام أنوية مركزية egocentrisme ؟؟
يندرج تخصيص الإنسان باللغة ضمن تقليد فلسفي عريق يخص الإنسان بطائفة من المميزات الأخرى كالعقل، الوعي، التنظيم السياسي...بيد أن هذا الإمتياز قد بدأ في التصدع تحت الفعل المزدوج للعلوم الإنسانية وللعلوم الدقيقة وعلى رأسها علم بيولوجيا الأعصاب
الملاحظة الأولى أن اللغة لا تكون خاصية للإنسان إلا ضمن تعريف خاص للغة يتضمن من الشروط ما لا تستوفيه مسبقا أنماط التواصل الحيواني،كالتمفصل المزدوج أو التجريد. وكل تعريف خاص فهو تعريف اقصائي بالضرورة.. بيد أن انماط التواصل الحيواني تندرج كما رأينا ضمن تعريف عام للغة باعتبارها كل نسق من العلامات يتخد وسيلة للتواصل
وإدا كانت كل مقارنة بين اللغة الإنسانية و"اللغة " الحيوانية كلغة النحل مثلا تنتهي إلى إعلان محدودية القدرة التعبيرية لهذه الأخيرة وجمودها، فلابد من تنسيب هذا الحكم بتحديد مرجعيته: وبعبارة أخرى لغة النحل محدودة وقاصرة بالنسبة لمتطلبات الحياة الإجتماعية وتقسيم العمل في المجتمع الإنساني، بينما تصبح لغة كافية ومتوافقة و متطلبات الحياة الإجتماعية وتقسيم العمل لدى النحل كما أشار إلى ذلك برغسون.
إن تميز اللغة الإنسانية أو أية وظيفة أخرى لايجوّز اعلانها خاصية إنسانية، وإلا سنعتبر الإبصار خاصية للقطط أو للنحل وحدهما مادام بصرهما أكثر حدة ودقة وأقدر على إدراك الحركات السريعة والتمييز بين الألوان أو الإبصار في الظلام..!! وغيرها من القدرات الحيوية بالنسبة لهما لكنها ببساطة غير ضرورية للكائن البشري. وبصفة عامة فاللغة كالإبصار وظيفتان بيولوجيتان تقاس قيمتهما بمدى استجابتهما لحاجات الكائن الحي وتكيفهما مع ظروف معطيات محيطه.
من جهة ثالثة، تنبهنا أبحاث الفيلسوف الأمريكي David deGrazia في كتابه "إعادة الإعتبار للحيوان: الحياة النفسية والمكانة الأخلاقية" إلى أن للمقدرة اللغوية أبعادا أخرى غير الإنتاج والتلفظ ، الذي يركز عليه أغلب الفلاسفة، وأهم هذه الأبعاد الفهم، وهو القدرة على استيعاب المنطوقات وادراك مدلولاتها ومقابلاتها من الأشياء الواقعية أو ترجمتها إلى أفعال أو إلى مواقف وجدانية انفعالية. ومن السهل أن يلاحظ ذلك عند الطفل الصغير الذي يظهر قدرة هائلة على فهم كلام المحيطين به وهو عير قادر بعد على إنتاج الجمل بدوره. وقد دلت التجارب والملاحظات على قدرة بعض الحيوانات على فهم اللغة الإنسانية بفعل الألفة أو الترويض. وفي هذا الإطار يذكر DeGrazia التجارب التالية:
--استطاع لويس هيرمان وفريقه تدريب دلافين عى فهم حوالي 2000 جملة مكونة من علامات صوتية؛
--تمكن Kreiger و Shusterman من تدريب اثنين من أسود البحر على فهم حوالي 200 علامة؛
--أما الغوريلا الملقب ب koko فقد استطاع استيعاب حوالي 500 علامة وتوظيفها في جمل تصم بين ثلاث إلى ست كلمات...
وعليه فلابد من الإعتراف للحيوان إمكانية امتلاكه على الأقل لبعد من أبعاد المقدرة اللغوية متمثلا في الفهم .
إذا كانت اللغة هي كل نسق من العلامات يمكن أن يتخد وسيلة للتواصل، وإذا كانت حيوانات كثيرة تبرهن عن امتلاكها لمثل هذا النسق خصوصا تلك التي تعرف حياتها الإجتماعية أشكالا معقدة من التنظيم لايتصور دون أداة للتواصل كالنمل والنحل، فلم تعتبر اللغة خاصية إنسانية إذن ؟ خصوصا وأن الرأي الشائع لدى الحس المشترك يؤكد أن الحيوانات تتكلم ولو أننا لانفهم لغتها
()
تناول ديكارت هذا السؤال في كتابه مقال في المنهج. وباعتباره أحد دعاة النزعة الآلية التي تسعى إلى تفسير الحركة تفسيرا ميكانيكيا وتنظر إلى الحيوان كمجرد آلة معقدة التركيب خاضعة لقوانين الحركة، فإن مايدعى لغة حيوانية لايعدو أن يكون حركات طبييعة لاتمثل في نهاية المطاف سوى ردود أفعال غريزية أو قابلة للبرمجة عن طريق الترويض ومن ثم قابلة للتوقع أو أنها استجابات آلية لمثيرات ودوافع. بدليل أن أكمل الحيوانات خلقة وأكثرها ذكاءا وأقدرها على إصدار أصوات كالببغاء لاتنطق نطقا يشهد أنها تعي ماتقول، ويظل "أداؤها اللغوي" دون مستوى أداء أغبى الأطفال أو مستوى الصم والبكم الذين حرموا أعضاء النطق لكنهم قادرون مع ذلك على ابتكار علامات يجعلون بها أفكارهم مفهومة. إن اللغة إذن وظيفة التعبير عن الفكر ودلالة على الوعي الذين ينفرد بهما الإنسان من منطلق كونه مركبا من جوهرين: الجسد وخاصيته الإمتداد ثم النفس وخاصيتها التفكير. أما الحيوان فلا يملك غير الحركات الطبيعية أو الإنفعالات(نص: "الكلام خاصية للإنسان"، ص13.)
لكننا نعلم أن كارل فون فريش قد اكتشف في أواخر القرن التاسع عشر قواعد مايعرف بلغة الرقص لدى النحل والتي تستطيع من خلالها نحلة اكتشفت مثلا مكانا للرحيق أن تعود للخلية وتخبر الباقيات بمعلومات محددة عن كمية الرحيق واتجاه موقعه ومقدار بعده عن الخلية !. إنه أذن نظام تواصلي معقد ومدهش يضع موضع شك وتساؤل أطروحة اختصاص الإنسان باللغة. فلِم الإصرار على جعل اللغة خاصية إنسانية؟ ألا يخفي هذا الإصرار نزعة إنسانية متمركزة؟
لنلاحظ مع إميل بنفنيست كيف أن لغة النحل هذه لاتعبر فعلا ولايمكنها أن تعبر سوى عن عدد محدود من المضامين بسبب محدودية عدد التأليفات والتنويعات الممكنة التي تقبلها لغة الرقصات، كما أنها لاتسمح بقيام حوار إذ تظل الرسالة في اتجاه وحيد دون استجابة لغوية من المتلقي، ودون إمكانية نقلها إلى طرف ثالث، كما تشترط الحضور الفعلي للموضوع الخارجي المشار إليه. و كلها قيود تنفلت من أسرها اللغة الإنسانية ، وبالمقابل فإنها تعتمد الجهاز الصوتي ومخارجه من الوفرة بحيث يسمح بتأليفات يمكنها من التعبير عما لانهاية له من المضامين.ولعل الخاصية الأخيرة هي التي تميز نهائيا ودون لبس اللغة الإنسانية عن غيرها من أنظمة التواصل لدى الحيوان. فكيف يمكن لأصوات (حروف الأبجدية مثلا) وكلمات (مفردات القاموس) متناهية العدد أن تعبر عما لانهاية له من المضامين؟
يعود ذلك إلى خاصية التمفصل المزدوج التي أوضحها أندري مارتيني كالتالي:
• - التمفصل الأول: ما من جملة أو منطوق دال إلا ويقبل التمفصل والتجزئ إلى عدد من الوحدات الصغرى المتمايزة الدالة أو المونيمات والتي يمكن إعادة استعمالها في جمل أخرى لتأدية مضامين جديدة.
• - التمفصل الثاني: ويتجلى في كون المونيمات بدورها تقبل التمفصل إلى وحدات صغرى غير دالة هي الأحرف أو إذا شئنا الدقة الأصوات أو الفونيمات التي يمكن إعادة عزلها وإعادة استعمالها لتأليف كلمات وتأدية مضامين جديدة(نص " التمفصل المزدوج للغة" ص23). ويمثل هذا التمفصل المزدوج اقتصادا كبيرا للغة الإنسانية وهو تمفصل تفتقده لغة الرقص لدى النحل أو حتى لغة الصيحات فيما لو اعتمدها الإنسان. وقد ارجع برغسون هذا التميز إلى طبيعة تقسيم العمل في المجتمع الإنساني: فمن حيث أن الفرد لايولد كالنحلة مهيأ للقيام بعمل واحد محدد وحيث أن قائمة الأنشطة الممكن مزاولتها غير حدود فإن اللغة الإنسانية قد عكست هذا الإنفتاح والمرونة.(ثص: " الكلمات والأشياء" ص 19)
ليست اللغة خاصية إنسانية فحسب بل هي علامة مميزة للوجود الإنساني. وقد ذهب بعض الفلاسفة أمثال إرنست كاسيرر إلى حد القول بأن اللغة والإبداعات الرمزية عامة قد خلقت عالما رمزيا متوسطا بين الإنسان والعالم المادي بحيث أصبح إدراك هذا الأخير كما هو مستحيلا بغير التحويلات التي يخضعه لها العالم الرمزي. ومن هنا وصف الإنسان بكونه" حيوانا رامزا".(نص "الإنسان حيوان رامز" ص 14) وقد انتبه "مين دوبيران" في القرن 17إلى هذه الوظيفة الترميزية لدى صغير الإنسان أي الرضيع فقال: " حيث لايكون هناك قصد أو إرادة فليست هناك علامات بمعنى الكلمة، فالطفل لايبدأ حقا في استعمال العلامات إلا عندما يحول صيحاته وبكائه إلى علامات ينادي بها من حوله" وهو ماعبر عنه بنفنيست بقوله إن الإنسان بخلاف الحيوان يسمي إحساساته ولايكتفي بالتعبير عنها.. أما اللساني المعاصر نعوم تشومسكي فقد ذهب إلى أن الإنجازاللغوي الباهر الذي يظهر لدى الطفل يدفع إلى افتراض كفاية لغوية فطرية على شكل بنيات وقواعد يتم إخراجها من القوة إلى الفعل عبر مسلسل التعلم.
نقد وتقويم للأطروحات القائلة بأن اللغة خاصية إنسانية: هل نحن أمام أنوية مركزية egocentrisme ؟؟
يندرج تخصيص الإنسان باللغة ضمن تقليد فلسفي عريق يخص الإنسان بطائفة من المميزات الأخرى كالعقل، الوعي، التنظيم السياسي...بيد أن هذا الإمتياز قد بدأ في التصدع تحت الفعل المزدوج للعلوم الإنسانية وللعلوم الدقيقة وعلى رأسها علم بيولوجيا الأعصاب
الملاحظة الأولى أن اللغة لا تكون خاصية للإنسان إلا ضمن تعريف خاص للغة يتضمن من الشروط ما لا تستوفيه مسبقا أنماط التواصل الحيواني،كالتمفصل المزدوج أو التجريد. وكل تعريف خاص فهو تعريف اقصائي بالضرورة.. بيد أن انماط التواصل الحيواني تندرج كما رأينا ضمن تعريف عام للغة باعتبارها كل نسق من العلامات يتخد وسيلة للتواصل
وإدا كانت كل مقارنة بين اللغة الإنسانية و"اللغة " الحيوانية كلغة النحل مثلا تنتهي إلى إعلان محدودية القدرة التعبيرية لهذه الأخيرة وجمودها، فلابد من تنسيب هذا الحكم بتحديد مرجعيته: وبعبارة أخرى لغة النحل محدودة وقاصرة بالنسبة لمتطلبات الحياة الإجتماعية وتقسيم العمل في المجتمع الإنساني، بينما تصبح لغة كافية ومتوافقة و متطلبات الحياة الإجتماعية وتقسيم العمل لدى النحل كما أشار إلى ذلك برغسون.
إن تميز اللغة الإنسانية أو أية وظيفة أخرى لايجوّز اعلانها خاصية إنسانية، وإلا سنعتبر الإبصار خاصية للقطط أو للنحل وحدهما مادام بصرهما أكثر حدة ودقة وأقدر على إدراك الحركات السريعة والتمييز بين الألوان أو الإبصار في الظلام..!! وغيرها من القدرات الحيوية بالنسبة لهما لكنها ببساطة غير ضرورية للكائن البشري. وبصفة عامة فاللغة كالإبصار وظيفتان بيولوجيتان تقاس قيمتهما بمدى استجابتهما لحاجات الكائن الحي وتكيفهما مع ظروف معطيات محيطه.
من جهة ثالثة، تنبهنا أبحاث الفيلسوف الأمريكي David deGrazia في كتابه "إعادة الإعتبار للحيوان: الحياة النفسية والمكانة الأخلاقية" إلى أن للمقدرة اللغوية أبعادا أخرى غير الإنتاج والتلفظ ، الذي يركز عليه أغلب الفلاسفة، وأهم هذه الأبعاد الفهم، وهو القدرة على استيعاب المنطوقات وادراك مدلولاتها ومقابلاتها من الأشياء الواقعية أو ترجمتها إلى أفعال أو إلى مواقف وجدانية انفعالية. ومن السهل أن يلاحظ ذلك عند الطفل الصغير الذي يظهر قدرة هائلة على فهم كلام المحيطين به وهو عير قادر بعد على إنتاج الجمل بدوره. وقد دلت التجارب والملاحظات على قدرة بعض الحيوانات على فهم اللغة الإنسانية بفعل الألفة أو الترويض. وفي هذا الإطار يذكر DeGrazia التجارب التالية:
--استطاع لويس هيرمان وفريقه تدريب دلافين عى فهم حوالي 2000 جملة مكونة من علامات صوتية؛
--تمكن Kreiger و Shusterman من تدريب اثنين من أسود البحر على فهم حوالي 200 علامة؛
--أما الغوريلا الملقب ب koko فقد استطاع استيعاب حوالي 500 علامة وتوظيفها في جمل تصم بين ثلاث إلى ست كلمات...
وعليه فلابد من الإعتراف للحيوان إمكانية امتلاكه على الأقل لبعد من أبعاد المقدرة اللغوية متمثلا في الفهم .